تاجوج عصرها
1
أحمد ابن الشيخ (أوشيك) ابن أحد شيوخ البني عامر.. نشأ وترعرع في مدينة الوجدان المشرقة (كسلا الوريفة).. شرب من منابع طيبتها من توتيل. وتلقى من بركات الضريح وتبريكات أبناء سيّد الضريح، حتى قصّة خصلة الشعر كما اعتاد أهله الطيبين.. مازال يذكر تماما تلك اللحظات الرهيبة (وكان عمره لم يتعد السنوات الخمس) حين أخذه جده لأمه بصحبة والديه إلى الضريح بعد أن غسلته أمه بالليفة والصابون في حمام بيت الجد والبسته العراقي (الساكوبيس) الجديد والسروال الطويل. (السروالوك) ذاك كان يوم ختانه وقصّ الخصلة الطويلة المتدلية من رأسه الاصلع حتي مؤخرة العنق. وركبوا سيارة خاله عبد القادر نصف النقل التي كانت مرخصة لنقل الركاب من كسلا السوق إلى حيّ الختمية الواقع على سفح جبل التاكا (توتيل) حيث البركة المتدفقة من بئر توتيل، وضريح السيد الحسن الكبير..
لطالما حكت له جدته عن ذلك السيّد الكبير (أبوجلابية) و(دابي روندا) و(سيّد الضريح)
وكثرة الأسماء تدلّ على عظمة المسمى.. ولكل إسم قصة حكتها له جدته بالتفصيل..
يذكر منها قصّة الجلابية.. قالوا أن والد السيّد الكبير جاء للسودان زائرا من الحجاز، من مكّة المكرّمة، بلد جدّه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. وقد تزوج من غرب السودان وترك زوجته حبلى و رحل. وكان يزورهم كل عام. وفي إحدى زياراته كان إبنه الصغير قد بلغ السابعة من العمر، فقرر أخذه مع أمه لمكّة المكرّمة لأداء فريضة الحج. وهناك التقى السيّد الصغير بأشقائة.. يقولون أنّ أشقاءه كانوا يرتدون جلابيب شديدة البياض (بوبلين) بينما يرتدي هو جلباب الدمّور.. ولمّا لاحظت الأم السودانيّة ذلك كطبع النساء تولّدت في قلبها غيرة.. فاحتجت على التفرقة. فقال لها والده:ـ أنظري لجلباب إبنك.. فلما التفتت لابنها وجدت جلبابه الدمور يشعّ نورا (فآمنت واقتنعت)
أمّا حكاية دابي روندا، فيقال أنّ هناك جزيرة في وسط البحر الأحمر تسمّى (روندا) وأنّ هذه الجزيرة بها ثعبان مارد يحرسها، وكل من يقترب منها فمصيره الموت بنفخة واحدة من ذلك الثعبان.. نفخة من نار قادرة على إحراق بلدة بحالها.. ويقال أنّ السيّد الحسن الكبير كان في رحلة للحج عابرا البحر الأحمر.. فلمّا مرّ قرب جزيرة روندا، أمر قبطان السفينة أن يتجه نحو الجزيرة وأصرّ على ذلك. ورغم احتجاج من كانوا معه وخوفهم الشديد إمتثل ربّان السفينة لأمر السيّد الكبير (إذ كان يعرف أنّه رجل صالح) .. وما أن رست السفينة على شطّ الجزيرة، ظهر الثعبان اللعين، فبادره السيّد بنفخة من فيه فاحترق الثعبان اللعين وارتاح الناس من شرّه، والحكايات عن السيّد الكبير كثيرة ومثيرة.. واعتقادات القوم فيه كبيرة..
ونعود لصاحبنا الطفل صاحب الخصلة.. وصل الجميع لسفح الجبل وتوجهوا نحو البئر المباركة وشربوا من توتيل وتبرّكوا من تراب وجدران الضريح. ثم من هناك توجهوا حيث يجلس السيّد الحسن الصغير حفيد السيّد الكبير. ولساعة كان الجد وابن بنته الصغير في انتظار دورهم للدخول.. وعند الباب الخارجي خلع الجد نعليه وتوجه حبواً نحو الصالون المهيب. واحتذى به الإبن لدقيقة واحدة قام بعدها جاريا نحو باب الصالون متعديا كل التقاليد واقتحم الصالون وجلس على حجر السيّد الحسن الذي تلقاه بابتسامة ترحيب وسأله عن إسمه ومع من حضر وكان يعرف جدّه.. فوجه له الصغير أسئلة متلاحقة..
هل أنت أبو جلابية؟؟؟
أنت دابي روندا ؟؟؟
فلمّا أجابه السيّد بالنفي وأنّ ذاك كان جده، ماكان من الصغير إلا أن سأله:ـ
إذن لماذا يقصدك كلّ هؤلاء الناس.. ولماذا يدخل جدي حابيا؟؟؟
وقبل أن يجيب السيّد كان جدّه قد وصل حابيا وقبّل يد السيّد واعتذر له عمّا بدر من الصغير وأراد أن يضرب الطفل فمنعه السيّد وقال له:ـ
دعه فهو جاهل ولا يدري شيئا، ولسوف يكون لابنك هذا شأن عظيم..
وتمّ قصّ الخصلة الممشّطة بيد السيّد وكان الطاهر الطهّار بالقصبة والموسي ينتظر خارج الصالون لإجراء عملية الختان..
أحداث لم يمحها الزمن من ذاكرة الأستاذ أحمد أوشيك رئيس شعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة كسلا الثانوية..
كبر الطفل أحمد أوشيك وترعرع بين الحضر والخضرة في حي الميرغنية جوار السوق حيث كان والده يعمل تاجراً في سوق المدينة يبيع لأهله القادمين من البادية العجوة والزيت والبن والسكر والشاي وغيرها من احتياجاتهم المتواضعة.. وكان الوالد مستور الحال وقد عمل على أن ينشئ إبنه الوحيد (أحمد) وبناته الثلاث (فاطمة، مريم وزهرة) نشأة دينية وعلي الخلق الكريم. وأدخلهم خلاوي تعليم القرآن وكانوا قد حفظوا أكثر من نصف القرآن قبل دخولهم المدارس. وكان مهتما بتعليمهم أشدّ الإهتمام وخاصة أحمد الذي كان متفوّقاً في كل مراحل التعليم حتى تخرج من معهد المعلّمين العالي. (كليّة التربية حاليّاً) أما البنات فقد تزوجن جميعا بعد أكمال المرحلة الثانوية وقد اختار لهنّ الوالد ممن نالوا الشهادات العليا من أبناء جلدته وهم قلّة في ذلك الزمان..
زوّج بناته ممّن اختار وترك لابنه الخيار. فاختار أحمد بنت الجيران (هند) وكانت تنتمي لقبائل الشمال النازحين إلى كسلا منذ الحرب العالمية الثانية. كانت هند بنت جارهم سر الختم غاية في الجمال والأدب والرقي، محبوبة من كل شباب الحي، وكلّهم يتمنى أن تكون من نصيبه. وأحمد متعلّم وتقيّ ومهذّب ويستحقها تماما، لكن أمّ هند كانت معترضة على زواجها منه بحجة اختلاف العادات بين القبائل.. لكن البنت كانت تريد أحمد ووالدها أيضاً يريده لمعرفته بحسن خُلقه وتدينه.. وتغلّب رأي الوالد وابنته وتمّت الموافقة ورضخت الأم. لكنها لم تكن كارهة لهذا القرار. فهي تعرف أحمد منذ ولادته كما تعرف أمّه الجارة القريبة الحبيبة، أقرب الناس إليها.. لكنها أمّ العروسة الجميلة ولابدّ أن تتعزز ولو قليلا..
وتمّ الزواج الميمون بعد أن تخرّج أحمد مباشرة وتمّ تعيينه معلّماً في مدرسة كسلا الثانوية بنين..
هو حي الميرغنية العريق. جلّ سكانه من أبناء الشمال من شايقيّة وجعليين. معظمهم عاد من معركة (كرن) في الحرب العالميّة الثانية. وكانوا يعملون عساكر وسائقين في الجيش الإنجليزي حيث حاربوا مع الحلفاء، وقد أبلوا بلاءً حسنا إثر وعد كاذب من الإنجليز بمنح البلاد إستغلالها بعد الحرب مباشرة.. وفي حكاية تحكي عن اللواء حسن بشير نصر (له الرحمة) أنّه كان في الحرب يعمل على مدفع مضاد للطائرات.. وكانت الأوامر أن يضربوا أي طائرة تعبر أجواء كرن. وظهرت طائرة من على البعد فاستعدّ الضابط الصغير لضربها.. فقال له زميل له إنتظر قليلا حتى نتبيّن هويّة الطائرة.. فردّ عليه حسن بشير:ـ (عليّ الطلاق لو بقت مشلّخة شايقية أضربها)
وبعد انتهاء الحرب فضّل معظم المحاربين من أبناء الشمال البقاء بمدينة كسلا لسببين:ـ.
أوّلهما:ـ سعة وخصوبة الأرض الزراعية في كسلا على امتداد ضفاف القاش شرقا وغربا..
وثانيهما:ـ مجاورة ضريح السيّد الحسن الكبير. وكان الميرغنيّة قد ورثوا من جدّهم الكبير كلّ أرض يقع عليها ظلّ الجبل (كما يقولون) وهذا يعني كلّ شبر من أرض كسلا الوريفة. ولكن السادة منحوهم الأرض بالتزرعة. (حيث يتقاسمون معهم ريع الأرض) وأصبح كلّ منهم يمتلك ساقية كبيرة تتراوح مساحاتها بين الخمس والعشرة فدادين وقد تزيد. وكان أهلنا في الشمال يعانون من ضيق الأرض، لذلك فرحوا بجزيل عطاء السادة لهم. وكانت نظرة السادة بعيدة، حيث ضمنوا الولاء الطائفي والسياسي فيما بعد.. وصار كبار القوم خلفاء للسادة، يجمعون لهم نصف المحصول من كل السواقي. وكان ولاءهم للسادة كبير. ولكن بمرور الزمن وتعاقب الأجيال صارت الأرض لمن يفلحها أو يلفحها، (على قول الرئيس الراحل جعفر نميري له الرحمة) ولم يبق على العهد إلا القليل..
ماعلينا..
نجح أحمد وتخرّج من معهد المعلّمين العالي متخصّصاً في اللغة الإنجليزية. وكان معلمو الإنجليزية من السودانيين قلّة في ذاك الزمان. وكانت وزارة التربية تستقدم معلّمي الإنجليزي من بريطانيا ومعلّمي العلوم والرياضيات من مصر. وكان المعلّمون الأجانب يتقاضون مرتباً ضعفاّ لما يتقاضاه السودانيون.. بعكس مايحدث في العالم كلّه.. (لا أدري لماذا) وكان المصريون يغتربون عندنا ويرجعون لبلادهم محمّلين بالمال والهدايا.. أما الخواجات فكانوا يعتبرونها سياحة. وأذكر أن كان لنا أستاذ إنجليزي يصغرنا سنّاً، وكان يسكن جارا لنا في حيّ الميرغنية غرب. وكنت أحيانا أجدة ماشيا في الطريق وأردفه أمامي على الدرّاجة (الرالي) حتى مكتبه داخل المدرسة.. كان أحيانا يستوقفني أمام كشك الليمون ليشرب كوبا ويعود لي ولم يدعني مرّة لمشاركته كوب الليمون. وفي مرة سألته:ـ
(How old are you Mr. …..)
فأجاب:ـ
(Iam old enough to teach English)
تزوّج أحمد من هند أجمل بنات الحيّ، بل المدينة كلّها في حفل بهيج، إختلطت فيه نغمات الطنابير.. بعض يعزف ألحانا من الشمال مع أزيز كفوف الشباب القادمين بعض من الشمال والبعض من السواقي الجنوبية يشاركون أميرتهم الحسناء أفراح زفافها إلى ابن الشرق المخضرم..
والبعض يعزف بدونا أوووو بدونا مختلطة بصليل السيوف ورقصات بديعة والسيوف على النحور.. والكل قد شبع من اللحم الضأني المشوي على الحصا سلاتاً شهيا..
وكان شهر العسل فوق الهضبة الأثيوبية في أديس أبابا (الزهرة الجميلة) وكان العسل ممتعا والطبيعة جميلة والجو لطيفا فوق الهضبة. كان العروس لطيفا حقاً، يدلّل عروسته ويناديها أمّ تاجوج.. حكى لها أنّه قد أحبّها منذ كانت طفلة وكان يسميها تاجوج زمانها.. لكنه الآن يحلم بأنّها ستنجب له إبنة تفوق تاجوج جمالاّ ويسميها تاجوج..
وحكى لها قصّة أميرة الشرق تاجوج وزوجها وحبيبها المحلّق كماسمعها من أهله وقرأ عنها:ـ
تاجوج اجمل قصص التراث في شرق السودان وفي منطقة كسلا تحديداً وقد ارتبط اسم الجمال بالمنطقة وذلك لجمال الطبيعة فيها ولجمال تاجوج..
وهذه حكاية تاجوج كما وردت في كنب المؤرّخين..
هناك في قرية عنـاتر بين سفوح التاكا ورباها وعلى ضفة نهر سيتيت الشرقية وفي ادغال واحراش السنط والسدر والأندراب والهجليج والبان.. وبين قبائل الضباينة وبني عامر والشكرية والأحباش عاشت قبيلة الحمران ردحاً من الزمن هادئة البال مرتاحة في مقرها الجديد بعد ان فارقت موطنها الأصلي في ميناء سواكن ملتقى البر والبحر والسحب والجبال، كانت قبيلة الحمران لا تخشى مطامع جيرانها حتى الأحباش لانها قد أعدت لهم رباط الخيل وصمدت لنزالهم بشجاعة فتيانها وشيوخها الذين اقتنوا الخيول لصد كل غاز وقد ذكر ها المؤلف السوداني ود ضيف الله واوضح قيمة الخيل عند الحمران.
وفي أواسط القرن الثامن عشر للميلاد تقريباً أنجبت قبيلة الحمران عدة شبان برزّوا كغيرهم في ضروب البسالة والشجاعة وأختصهم الله بحب الطبيعة وجمالها فأوحت إليهم بالشعر فنظموا الشعر غزلاً وفخرا. ومن بين هؤلاء الشبان الذين سمعنا بشعرهم على بن محمد شقيق تاجوج والمحلّق بن علي زوجها، وغيرهما من شباب وشيوخ.
ونشأت في القبيلة أيضاً فتاة بزّت قريناتها في الجمال والجاه، ناهيك بمن تنشأ في بيت العز والترف.. كان والدها عميد القوم ووالدتها فتانة ممشوقة القوام وقد امتدّ ملك أهلها من أقصى نهر سيتيت حتى سواحل البحر الاحمر. كانت هذه الفتاة هي تاجوج بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق. دوّت أخبارها عبر الآفاق وتناقل الناس حديث جمالها وسارت الركبان تتغنى بما أختصت به من أدب وذكاء، وتسامر الفتيان بشهي حديثها ولذيذ خطابها. فتقدم المحلق إلى والدته يطلب منها أن تخطبها له من خاله. فأمتثلت الأم وطلبت من أخيها ابنته تاجوج لأبنها المحلق. فرضي الخال ولكن بعد أن طلب مهراً غالياً كما اشترط أن يترك إبنها السلب وقطع الطريق.. فأستعان المحلق بوالده فوفّر له المال، وعاهد خاله الّا يقطع الطريق.. وتم عقد القِران بين الزغاريد والدفوف والرقص. عاشت تاجوج تحت سقف الزوجية وكانا أسعد زوجين في القبيلة.
ولم يكن المحلق معصوماً وكانت له علاقات حب وغرام مع بعض الفتيات قبل قرانه بتاجوج كدأب أغلب الفتيان في البوادي والمدن وخاصة أولئك الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم، ومن ذلك ما بلغنا من رواة ثقات حادثة جرت لهذين الزوجين كانت فاتحة الشر بينهما. ونذكرها هنا بحذافيرها لأن حياتهما لم تهنأ بعدها:ـ
قيل أن المحلق خرج من خبائه في ليلة شديدة المطر و الرعد والبرق وحملق ببصره ليرى اتجاه المطر والأنحاء التي ستحظى بأغزرها. فكان وميض البرق على سهول قوز رجب. ثم هبت عليه رياح الأمطار من تلك الديار. فتذكر اياماً جميلة قضاها مع صديقة له في تلك الديار ماله من يبعث اليها بشوقه وذكرياته الحلوة وأحلامه اللذيذة إلا لمعان البرق وقصف الرعد وهطول المطر وهبوب الريح وجالت في مخيلته هواجس الاحبة فملكت عليه مشاعره وأنسته موقفه الذي فيه فأنشد : بشِدْ واركبْ على الياخُذ لُه عَنّه
فِريوْةَ الرّيفْ مَعَ الّتوبْ المِتِنّى
يَتِبْ عجلانْ قِبُل ما نْلمْ رَسَنّا
بيوتْ نُورَة أمْ شِليْخ وين من أَهَلْنَا
فلاح له إيماض البرق ثانية من نفس الجهة فودّ لو أستطاع أن يركب جمله
البشاري السريع الذي يثب قبل ان تتمكن أفخاذ المحلق من السيطرة عليه , فقال يصف حالته تلك :
بشد وأركب على ودّ البشارى
فريق الريف من المحزم تجارى
يتبْ عجلان قبُل ما الم حكارى
بلِيدْ نُورَة أم شِلِيخ اللّيِلة طاري
ثم قال:ـ
بشِدْ واركبْ على أب زرداَ مدانَةْ
مِتِل وَدّ الأرايلْ في البطانَةْ
نِضوهو من كريكر اليوم ترانا
نساري الليل على خدّيرْ فلانة
وبينما هو ساهم في تأملاته وأسفاره الوجدانية ناسياً كل ما حوله وينشد ذلك بصوت عال, سمعته تاجوج فخرجت من الخباء لترى ما أعترى هذا العاشق المتيم الولهان الذي حرك البرق ولمعانه في قلبه الذكريات, فأنبعثت الأشعار من صميم فؤاده. فوجدت نفسها أمام بعلها وجهاً لوجه فأخذت تحرق الأرُم من الغيظ والغيرة, وأنقلبت أسارير ذلك الوجه النضير إلى الكآبة والعبوس, وكاد يقضي عليها من الحسرة والأسى ولولا صبرها لقتلته. وما أهاج ثورة غضبها إلا الخوف والجزع على من وهبت قلبها له وأحبت الحياة لأجله, فلن تسمح لقلبه أن يميل مع الهوى أو ترضى أن تنزعه منها إحدى بنات حواء فتنغّص عليها عيشها وتجعل حياتها كلها نكداً وبؤسا. فقالت له: أعدْ الابيات التي قلتها الأن.. فأجابها, قلت:ـ
أمكْ دَبَاسَة وفُوقْ الفُروعْ
وأنتِ بتشبهي المُقْد الفُروعْ
سخلة مصنة الطيب ما فيك ضلوع
ليلة فَرِدْ يوم تازن سبوع
فقالت له: أعدْ الأبيات التي قلتها الأن. فأجابها قلت:ـ
أمك دباسة وفوق الشَدر
وانتِ بتشبهي المقد الكجَرْ
سخلة مصنة الطيب مافيك فِقَرْ
ليلة فَردْ يوم تازنْ شهرْ
فقالت : ما هكذا قلت . فأجابها , قلت :
أمك دباسة وفوق القنا
وانتِ بتشبهي المقد اللي انحنى
سخلة مصنة الطيب ما فيك جَنى
ليلة فرد يوم تازن سنة
فقالت بغضب: والله ما هكذا قلت . نسيبتك إن لم تعد لي ما قلت ... فحار المسكين في أمره, وعلم أن كل ثناء سكبه لأستدرار عطفها لم يجد نفعاً, ولم يخفف من غضبها وشدة أنفعالها فخضع أمام الحلف العظيم وجلاله، وهو قسم لا يمكنه أن يتريث في تنفيذه والتقاضي عنه والاستهتار به. فقال لها وأنفه راغم قلت:ـ
" بشد واركب .. الخ...
ولكن قال ذلك في صوت كسير يشوبه الخجل والحرج الشديد. فأنفجرت تاجوج باكية, وذهبت الى دار أبيها لا تلوى على شئ تشكو حليلها الذي لم يخص لها وحدها وده وحبه بل ما زال يشرك معها في قلبه صويحباته أيام طيشة ونزقه. ولكن كان ابوها الشيخ محمد حكيماً ويعلم طبائع الجنس اللطيف. فردها الى بعلها بعد أن أقنعها أنّ زوجها نبيل وعفيف.. فعلمت تاجوج أن عطف أبيها ومحاباته لابن أخته. فقالت: لن أعود الى منزل المحلق مالم يقصرشعَره عليَ دون أن يشرك معي خليلة أخرى. فرضي المحلق بالشرط مسرورا, وعاهدها على ذلك ثم تدفقت قريحته وتمكن منه الحب والكلف بها، فملاً البوادي كلها بمنظوم شعره يتغزل في تاجوج ويعتز بحبه لها . ومما قاله فيها متغزلاً:ـ
فصّْ الماظ مركب فوق مجــــمّرْ
فصّْ عينيك يا أم خشماً مجمّرْ
فوقْ بستان تحت سالك مضمّرْ
جليدك طاقة الكيدي المنمّرْ
وقا ل ايضاً :
ما بِتْجيكْ تَمشِي وتخبْ
وما دنقرت حلبت شخبْ
وريقاتك الفوق الصــــلبْ
جَرّحَـــــنّي داخل القلبْ
ويقول بعض الرواة:
أنّ تاجوج وأمّها أصرّتا على الطلاق وبحيلة.. فكان الطلاق واقعاً عليه بعد معاهدة سابقة. إذ طلب منها أن تتعرّى فوافقت بشرط أن يستجيب لطلب لها ملح، رفضت أن تعيّنه له.. فوافق المسكين، ووافقت وتعرّت له.. وكان طلبها بعد التعرّي الطلاق.. فوقع المحلق في شر أعماله واعترته حالة من الذهول وفقد الذاكرة وصار يتغنى باسم تاجوج وهو محرم عرفياً ذكر المرأة أماً واختاً فضلاً عن الزوجة والحبيبة. وكان محلق صاحب ملكة فنية وصوت رائع في الغناء فصار يتغنى باسمها النهار والليل، إلى أن ذهبوا به للأطباء والمشايخ والفقهاء وأصحاب الملكات في مقارعة السحر لكنه داء الحبّ لايستجيب لدواء.
ويقول بعض الرواة أنّ المحلّق كان متفقاً مع صديق له شاعر. وثقب خباء تاجوج ليرى صديقه زوجته وهي عارية، ليصدّق مايجريه شيطان شعره على لسانه من وصف دقيق وتفاصيل أقرب للخيال عن جمال جسدها.. وكانت تاجوج تعرف ذلك وقد أوصت أمّها لتراقب الخباء وتضبط صديقه متلبساً فيكون لها الحق في طلب الطلاق.. ولكن هذه الرواية يدحضها العقل السليم.. إذ لم تكن تتناسب مع طبائع العربان المشهورين بفروسيتهم وغيرتهم الشديدة على أعراضهم.. وللمجنون زائغ العقل ديوان كامل في الشعر وكله روائع ينعى فيه أيامه الماضية والحاضرة.. وأكثر الناس من الاضافات والخرافات حتى صار اسم تاجوج واسم المحلّق أسطورة وليس واقعاً عاشه الناس. وانتهى حال المحلق ضائعاً مغلوباً على أمره. وكانت نهاية حياة تاجوج بمأساة كانت هي ضحيتها إذ اغتالها شيخ من قطاع الطريق في ضاحية من ضواحي التاكا جنوب كسلا الحالية، بسبب تنازع أفراد العصابة على من ستكون له تاجوج فتسلل الشيخ وغرس خنجره المسموم في قلبها لما رأى أفراد عصابته يقتتلون عليها.. ودفنت تاجوج في ذلك المكان حيث أشجار الدوم والهجليج وصار بالمكان مدرسة باسم تاجوج...
1
أحمد ابن الشيخ (أوشيك) ابن أحد شيوخ البني عامر.. نشأ وترعرع في مدينة الوجدان المشرقة (كسلا الوريفة).. شرب من منابع طيبتها من توتيل. وتلقى من بركات الضريح وتبريكات أبناء سيّد الضريح، حتى قصّة خصلة الشعر كما اعتاد أهله الطيبين.. مازال يذكر تماما تلك اللحظات الرهيبة (وكان عمره لم يتعد السنوات الخمس) حين أخذه جده لأمه بصحبة والديه إلى الضريح بعد أن غسلته أمه بالليفة والصابون في حمام بيت الجد والبسته العراقي (الساكوبيس) الجديد والسروال الطويل. (السروالوك) ذاك كان يوم ختانه وقصّ الخصلة الطويلة المتدلية من رأسه الاصلع حتي مؤخرة العنق. وركبوا سيارة خاله عبد القادر نصف النقل التي كانت مرخصة لنقل الركاب من كسلا السوق إلى حيّ الختمية الواقع على سفح جبل التاكا (توتيل) حيث البركة المتدفقة من بئر توتيل، وضريح السيد الحسن الكبير..
لطالما حكت له جدته عن ذلك السيّد الكبير (أبوجلابية) و(دابي روندا) و(سيّد الضريح)
وكثرة الأسماء تدلّ على عظمة المسمى.. ولكل إسم قصة حكتها له جدته بالتفصيل..
يذكر منها قصّة الجلابية.. قالوا أن والد السيّد الكبير جاء للسودان زائرا من الحجاز، من مكّة المكرّمة، بلد جدّه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. وقد تزوج من غرب السودان وترك زوجته حبلى و رحل. وكان يزورهم كل عام. وفي إحدى زياراته كان إبنه الصغير قد بلغ السابعة من العمر، فقرر أخذه مع أمه لمكّة المكرّمة لأداء فريضة الحج. وهناك التقى السيّد الصغير بأشقائة.. يقولون أنّ أشقاءه كانوا يرتدون جلابيب شديدة البياض (بوبلين) بينما يرتدي هو جلباب الدمّور.. ولمّا لاحظت الأم السودانيّة ذلك كطبع النساء تولّدت في قلبها غيرة.. فاحتجت على التفرقة. فقال لها والده:ـ أنظري لجلباب إبنك.. فلما التفتت لابنها وجدت جلبابه الدمور يشعّ نورا (فآمنت واقتنعت)
أمّا حكاية دابي روندا، فيقال أنّ هناك جزيرة في وسط البحر الأحمر تسمّى (روندا) وأنّ هذه الجزيرة بها ثعبان مارد يحرسها، وكل من يقترب منها فمصيره الموت بنفخة واحدة من ذلك الثعبان.. نفخة من نار قادرة على إحراق بلدة بحالها.. ويقال أنّ السيّد الحسن الكبير كان في رحلة للحج عابرا البحر الأحمر.. فلمّا مرّ قرب جزيرة روندا، أمر قبطان السفينة أن يتجه نحو الجزيرة وأصرّ على ذلك. ورغم احتجاج من كانوا معه وخوفهم الشديد إمتثل ربّان السفينة لأمر السيّد الكبير (إذ كان يعرف أنّه رجل صالح) .. وما أن رست السفينة على شطّ الجزيرة، ظهر الثعبان اللعين، فبادره السيّد بنفخة من فيه فاحترق الثعبان اللعين وارتاح الناس من شرّه، والحكايات عن السيّد الكبير كثيرة ومثيرة.. واعتقادات القوم فيه كبيرة..
ونعود لصاحبنا الطفل صاحب الخصلة.. وصل الجميع لسفح الجبل وتوجهوا نحو البئر المباركة وشربوا من توتيل وتبرّكوا من تراب وجدران الضريح. ثم من هناك توجهوا حيث يجلس السيّد الحسن الصغير حفيد السيّد الكبير. ولساعة كان الجد وابن بنته الصغير في انتظار دورهم للدخول.. وعند الباب الخارجي خلع الجد نعليه وتوجه حبواً نحو الصالون المهيب. واحتذى به الإبن لدقيقة واحدة قام بعدها جاريا نحو باب الصالون متعديا كل التقاليد واقتحم الصالون وجلس على حجر السيّد الحسن الذي تلقاه بابتسامة ترحيب وسأله عن إسمه ومع من حضر وكان يعرف جدّه.. فوجه له الصغير أسئلة متلاحقة..
هل أنت أبو جلابية؟؟؟
أنت دابي روندا ؟؟؟
فلمّا أجابه السيّد بالنفي وأنّ ذاك كان جده، ماكان من الصغير إلا أن سأله:ـ
إذن لماذا يقصدك كلّ هؤلاء الناس.. ولماذا يدخل جدي حابيا؟؟؟
وقبل أن يجيب السيّد كان جدّه قد وصل حابيا وقبّل يد السيّد واعتذر له عمّا بدر من الصغير وأراد أن يضرب الطفل فمنعه السيّد وقال له:ـ
دعه فهو جاهل ولا يدري شيئا، ولسوف يكون لابنك هذا شأن عظيم..
وتمّ قصّ الخصلة الممشّطة بيد السيّد وكان الطاهر الطهّار بالقصبة والموسي ينتظر خارج الصالون لإجراء عملية الختان..
أحداث لم يمحها الزمن من ذاكرة الأستاذ أحمد أوشيك رئيس شعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة كسلا الثانوية..
كبر الطفل أحمد أوشيك وترعرع بين الحضر والخضرة في حي الميرغنية جوار السوق حيث كان والده يعمل تاجراً في سوق المدينة يبيع لأهله القادمين من البادية العجوة والزيت والبن والسكر والشاي وغيرها من احتياجاتهم المتواضعة.. وكان الوالد مستور الحال وقد عمل على أن ينشئ إبنه الوحيد (أحمد) وبناته الثلاث (فاطمة، مريم وزهرة) نشأة دينية وعلي الخلق الكريم. وأدخلهم خلاوي تعليم القرآن وكانوا قد حفظوا أكثر من نصف القرآن قبل دخولهم المدارس. وكان مهتما بتعليمهم أشدّ الإهتمام وخاصة أحمد الذي كان متفوّقاً في كل مراحل التعليم حتى تخرج من معهد المعلّمين العالي. (كليّة التربية حاليّاً) أما البنات فقد تزوجن جميعا بعد أكمال المرحلة الثانوية وقد اختار لهنّ الوالد ممن نالوا الشهادات العليا من أبناء جلدته وهم قلّة في ذلك الزمان..
زوّج بناته ممّن اختار وترك لابنه الخيار. فاختار أحمد بنت الجيران (هند) وكانت تنتمي لقبائل الشمال النازحين إلى كسلا منذ الحرب العالمية الثانية. كانت هند بنت جارهم سر الختم غاية في الجمال والأدب والرقي، محبوبة من كل شباب الحي، وكلّهم يتمنى أن تكون من نصيبه. وأحمد متعلّم وتقيّ ومهذّب ويستحقها تماما، لكن أمّ هند كانت معترضة على زواجها منه بحجة اختلاف العادات بين القبائل.. لكن البنت كانت تريد أحمد ووالدها أيضاً يريده لمعرفته بحسن خُلقه وتدينه.. وتغلّب رأي الوالد وابنته وتمّت الموافقة ورضخت الأم. لكنها لم تكن كارهة لهذا القرار. فهي تعرف أحمد منذ ولادته كما تعرف أمّه الجارة القريبة الحبيبة، أقرب الناس إليها.. لكنها أمّ العروسة الجميلة ولابدّ أن تتعزز ولو قليلا..
وتمّ الزواج الميمون بعد أن تخرّج أحمد مباشرة وتمّ تعيينه معلّماً في مدرسة كسلا الثانوية بنين..
هو حي الميرغنية العريق. جلّ سكانه من أبناء الشمال من شايقيّة وجعليين. معظمهم عاد من معركة (كرن) في الحرب العالميّة الثانية. وكانوا يعملون عساكر وسائقين في الجيش الإنجليزي حيث حاربوا مع الحلفاء، وقد أبلوا بلاءً حسنا إثر وعد كاذب من الإنجليز بمنح البلاد إستغلالها بعد الحرب مباشرة.. وفي حكاية تحكي عن اللواء حسن بشير نصر (له الرحمة) أنّه كان في الحرب يعمل على مدفع مضاد للطائرات.. وكانت الأوامر أن يضربوا أي طائرة تعبر أجواء كرن. وظهرت طائرة من على البعد فاستعدّ الضابط الصغير لضربها.. فقال له زميل له إنتظر قليلا حتى نتبيّن هويّة الطائرة.. فردّ عليه حسن بشير:ـ (عليّ الطلاق لو بقت مشلّخة شايقية أضربها)
وبعد انتهاء الحرب فضّل معظم المحاربين من أبناء الشمال البقاء بمدينة كسلا لسببين:ـ.
أوّلهما:ـ سعة وخصوبة الأرض الزراعية في كسلا على امتداد ضفاف القاش شرقا وغربا..
وثانيهما:ـ مجاورة ضريح السيّد الحسن الكبير. وكان الميرغنيّة قد ورثوا من جدّهم الكبير كلّ أرض يقع عليها ظلّ الجبل (كما يقولون) وهذا يعني كلّ شبر من أرض كسلا الوريفة. ولكن السادة منحوهم الأرض بالتزرعة. (حيث يتقاسمون معهم ريع الأرض) وأصبح كلّ منهم يمتلك ساقية كبيرة تتراوح مساحاتها بين الخمس والعشرة فدادين وقد تزيد. وكان أهلنا في الشمال يعانون من ضيق الأرض، لذلك فرحوا بجزيل عطاء السادة لهم. وكانت نظرة السادة بعيدة، حيث ضمنوا الولاء الطائفي والسياسي فيما بعد.. وصار كبار القوم خلفاء للسادة، يجمعون لهم نصف المحصول من كل السواقي. وكان ولاءهم للسادة كبير. ولكن بمرور الزمن وتعاقب الأجيال صارت الأرض لمن يفلحها أو يلفحها، (على قول الرئيس الراحل جعفر نميري له الرحمة) ولم يبق على العهد إلا القليل..
ماعلينا..
نجح أحمد وتخرّج من معهد المعلّمين العالي متخصّصاً في اللغة الإنجليزية. وكان معلمو الإنجليزية من السودانيين قلّة في ذاك الزمان. وكانت وزارة التربية تستقدم معلّمي الإنجليزي من بريطانيا ومعلّمي العلوم والرياضيات من مصر. وكان المعلّمون الأجانب يتقاضون مرتباً ضعفاّ لما يتقاضاه السودانيون.. بعكس مايحدث في العالم كلّه.. (لا أدري لماذا) وكان المصريون يغتربون عندنا ويرجعون لبلادهم محمّلين بالمال والهدايا.. أما الخواجات فكانوا يعتبرونها سياحة. وأذكر أن كان لنا أستاذ إنجليزي يصغرنا سنّاً، وكان يسكن جارا لنا في حيّ الميرغنية غرب. وكنت أحيانا أجدة ماشيا في الطريق وأردفه أمامي على الدرّاجة (الرالي) حتى مكتبه داخل المدرسة.. كان أحيانا يستوقفني أمام كشك الليمون ليشرب كوبا ويعود لي ولم يدعني مرّة لمشاركته كوب الليمون. وفي مرة سألته:ـ
(How old are you Mr. …..)
فأجاب:ـ
(Iam old enough to teach English)
تزوّج أحمد من هند أجمل بنات الحيّ، بل المدينة كلّها في حفل بهيج، إختلطت فيه نغمات الطنابير.. بعض يعزف ألحانا من الشمال مع أزيز كفوف الشباب القادمين بعض من الشمال والبعض من السواقي الجنوبية يشاركون أميرتهم الحسناء أفراح زفافها إلى ابن الشرق المخضرم..
والبعض يعزف بدونا أوووو بدونا مختلطة بصليل السيوف ورقصات بديعة والسيوف على النحور.. والكل قد شبع من اللحم الضأني المشوي على الحصا سلاتاً شهيا..
وكان شهر العسل فوق الهضبة الأثيوبية في أديس أبابا (الزهرة الجميلة) وكان العسل ممتعا والطبيعة جميلة والجو لطيفا فوق الهضبة. كان العروس لطيفا حقاً، يدلّل عروسته ويناديها أمّ تاجوج.. حكى لها أنّه قد أحبّها منذ كانت طفلة وكان يسميها تاجوج زمانها.. لكنه الآن يحلم بأنّها ستنجب له إبنة تفوق تاجوج جمالاّ ويسميها تاجوج..
وحكى لها قصّة أميرة الشرق تاجوج وزوجها وحبيبها المحلّق كماسمعها من أهله وقرأ عنها:ـ
تاجوج اجمل قصص التراث في شرق السودان وفي منطقة كسلا تحديداً وقد ارتبط اسم الجمال بالمنطقة وذلك لجمال الطبيعة فيها ولجمال تاجوج..
وهذه حكاية تاجوج كما وردت في كنب المؤرّخين..
هناك في قرية عنـاتر بين سفوح التاكا ورباها وعلى ضفة نهر سيتيت الشرقية وفي ادغال واحراش السنط والسدر والأندراب والهجليج والبان.. وبين قبائل الضباينة وبني عامر والشكرية والأحباش عاشت قبيلة الحمران ردحاً من الزمن هادئة البال مرتاحة في مقرها الجديد بعد ان فارقت موطنها الأصلي في ميناء سواكن ملتقى البر والبحر والسحب والجبال، كانت قبيلة الحمران لا تخشى مطامع جيرانها حتى الأحباش لانها قد أعدت لهم رباط الخيل وصمدت لنزالهم بشجاعة فتيانها وشيوخها الذين اقتنوا الخيول لصد كل غاز وقد ذكر ها المؤلف السوداني ود ضيف الله واوضح قيمة الخيل عند الحمران.
وفي أواسط القرن الثامن عشر للميلاد تقريباً أنجبت قبيلة الحمران عدة شبان برزّوا كغيرهم في ضروب البسالة والشجاعة وأختصهم الله بحب الطبيعة وجمالها فأوحت إليهم بالشعر فنظموا الشعر غزلاً وفخرا. ومن بين هؤلاء الشبان الذين سمعنا بشعرهم على بن محمد شقيق تاجوج والمحلّق بن علي زوجها، وغيرهما من شباب وشيوخ.
ونشأت في القبيلة أيضاً فتاة بزّت قريناتها في الجمال والجاه، ناهيك بمن تنشأ في بيت العز والترف.. كان والدها عميد القوم ووالدتها فتانة ممشوقة القوام وقد امتدّ ملك أهلها من أقصى نهر سيتيت حتى سواحل البحر الاحمر. كانت هذه الفتاة هي تاجوج بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق. دوّت أخبارها عبر الآفاق وتناقل الناس حديث جمالها وسارت الركبان تتغنى بما أختصت به من أدب وذكاء، وتسامر الفتيان بشهي حديثها ولذيذ خطابها. فتقدم المحلق إلى والدته يطلب منها أن تخطبها له من خاله. فأمتثلت الأم وطلبت من أخيها ابنته تاجوج لأبنها المحلق. فرضي الخال ولكن بعد أن طلب مهراً غالياً كما اشترط أن يترك إبنها السلب وقطع الطريق.. فأستعان المحلق بوالده فوفّر له المال، وعاهد خاله الّا يقطع الطريق.. وتم عقد القِران بين الزغاريد والدفوف والرقص. عاشت تاجوج تحت سقف الزوجية وكانا أسعد زوجين في القبيلة.
ولم يكن المحلق معصوماً وكانت له علاقات حب وغرام مع بعض الفتيات قبل قرانه بتاجوج كدأب أغلب الفتيان في البوادي والمدن وخاصة أولئك الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم، ومن ذلك ما بلغنا من رواة ثقات حادثة جرت لهذين الزوجين كانت فاتحة الشر بينهما. ونذكرها هنا بحذافيرها لأن حياتهما لم تهنأ بعدها:ـ
قيل أن المحلق خرج من خبائه في ليلة شديدة المطر و الرعد والبرق وحملق ببصره ليرى اتجاه المطر والأنحاء التي ستحظى بأغزرها. فكان وميض البرق على سهول قوز رجب. ثم هبت عليه رياح الأمطار من تلك الديار. فتذكر اياماً جميلة قضاها مع صديقة له في تلك الديار ماله من يبعث اليها بشوقه وذكرياته الحلوة وأحلامه اللذيذة إلا لمعان البرق وقصف الرعد وهطول المطر وهبوب الريح وجالت في مخيلته هواجس الاحبة فملكت عليه مشاعره وأنسته موقفه الذي فيه فأنشد : بشِدْ واركبْ على الياخُذ لُه عَنّه
فِريوْةَ الرّيفْ مَعَ الّتوبْ المِتِنّى
يَتِبْ عجلانْ قِبُل ما نْلمْ رَسَنّا
بيوتْ نُورَة أمْ شِليْخ وين من أَهَلْنَا
فلاح له إيماض البرق ثانية من نفس الجهة فودّ لو أستطاع أن يركب جمله
البشاري السريع الذي يثب قبل ان تتمكن أفخاذ المحلق من السيطرة عليه , فقال يصف حالته تلك :
بشد وأركب على ودّ البشارى
فريق الريف من المحزم تجارى
يتبْ عجلان قبُل ما الم حكارى
بلِيدْ نُورَة أم شِلِيخ اللّيِلة طاري
ثم قال:ـ
بشِدْ واركبْ على أب زرداَ مدانَةْ
مِتِل وَدّ الأرايلْ في البطانَةْ
نِضوهو من كريكر اليوم ترانا
نساري الليل على خدّيرْ فلانة
وبينما هو ساهم في تأملاته وأسفاره الوجدانية ناسياً كل ما حوله وينشد ذلك بصوت عال, سمعته تاجوج فخرجت من الخباء لترى ما أعترى هذا العاشق المتيم الولهان الذي حرك البرق ولمعانه في قلبه الذكريات, فأنبعثت الأشعار من صميم فؤاده. فوجدت نفسها أمام بعلها وجهاً لوجه فأخذت تحرق الأرُم من الغيظ والغيرة, وأنقلبت أسارير ذلك الوجه النضير إلى الكآبة والعبوس, وكاد يقضي عليها من الحسرة والأسى ولولا صبرها لقتلته. وما أهاج ثورة غضبها إلا الخوف والجزع على من وهبت قلبها له وأحبت الحياة لأجله, فلن تسمح لقلبه أن يميل مع الهوى أو ترضى أن تنزعه منها إحدى بنات حواء فتنغّص عليها عيشها وتجعل حياتها كلها نكداً وبؤسا. فقالت له: أعدْ الابيات التي قلتها الأن.. فأجابها, قلت:ـ
أمكْ دَبَاسَة وفُوقْ الفُروعْ
وأنتِ بتشبهي المُقْد الفُروعْ
سخلة مصنة الطيب ما فيك ضلوع
ليلة فَرِدْ يوم تازن سبوع
فقالت له: أعدْ الأبيات التي قلتها الأن. فأجابها قلت:ـ
أمك دباسة وفوق الشَدر
وانتِ بتشبهي المقد الكجَرْ
سخلة مصنة الطيب مافيك فِقَرْ
ليلة فَردْ يوم تازنْ شهرْ
فقالت : ما هكذا قلت . فأجابها , قلت :
أمك دباسة وفوق القنا
وانتِ بتشبهي المقد اللي انحنى
سخلة مصنة الطيب ما فيك جَنى
ليلة فرد يوم تازن سنة
فقالت بغضب: والله ما هكذا قلت . نسيبتك إن لم تعد لي ما قلت ... فحار المسكين في أمره, وعلم أن كل ثناء سكبه لأستدرار عطفها لم يجد نفعاً, ولم يخفف من غضبها وشدة أنفعالها فخضع أمام الحلف العظيم وجلاله، وهو قسم لا يمكنه أن يتريث في تنفيذه والتقاضي عنه والاستهتار به. فقال لها وأنفه راغم قلت:ـ
" بشد واركب .. الخ...
ولكن قال ذلك في صوت كسير يشوبه الخجل والحرج الشديد. فأنفجرت تاجوج باكية, وذهبت الى دار أبيها لا تلوى على شئ تشكو حليلها الذي لم يخص لها وحدها وده وحبه بل ما زال يشرك معها في قلبه صويحباته أيام طيشة ونزقه. ولكن كان ابوها الشيخ محمد حكيماً ويعلم طبائع الجنس اللطيف. فردها الى بعلها بعد أن أقنعها أنّ زوجها نبيل وعفيف.. فعلمت تاجوج أن عطف أبيها ومحاباته لابن أخته. فقالت: لن أعود الى منزل المحلق مالم يقصرشعَره عليَ دون أن يشرك معي خليلة أخرى. فرضي المحلق بالشرط مسرورا, وعاهدها على ذلك ثم تدفقت قريحته وتمكن منه الحب والكلف بها، فملاً البوادي كلها بمنظوم شعره يتغزل في تاجوج ويعتز بحبه لها . ومما قاله فيها متغزلاً:ـ
فصّْ الماظ مركب فوق مجــــمّرْ
فصّْ عينيك يا أم خشماً مجمّرْ
فوقْ بستان تحت سالك مضمّرْ
جليدك طاقة الكيدي المنمّرْ
وقا ل ايضاً :
ما بِتْجيكْ تَمشِي وتخبْ
وما دنقرت حلبت شخبْ
وريقاتك الفوق الصــــلبْ
جَرّحَـــــنّي داخل القلبْ
ويقول بعض الرواة:
أنّ تاجوج وأمّها أصرّتا على الطلاق وبحيلة.. فكان الطلاق واقعاً عليه بعد معاهدة سابقة. إذ طلب منها أن تتعرّى فوافقت بشرط أن يستجيب لطلب لها ملح، رفضت أن تعيّنه له.. فوافق المسكين، ووافقت وتعرّت له.. وكان طلبها بعد التعرّي الطلاق.. فوقع المحلق في شر أعماله واعترته حالة من الذهول وفقد الذاكرة وصار يتغنى باسم تاجوج وهو محرم عرفياً ذكر المرأة أماً واختاً فضلاً عن الزوجة والحبيبة. وكان محلق صاحب ملكة فنية وصوت رائع في الغناء فصار يتغنى باسمها النهار والليل، إلى أن ذهبوا به للأطباء والمشايخ والفقهاء وأصحاب الملكات في مقارعة السحر لكنه داء الحبّ لايستجيب لدواء.
ويقول بعض الرواة أنّ المحلّق كان متفقاً مع صديق له شاعر. وثقب خباء تاجوج ليرى صديقه زوجته وهي عارية، ليصدّق مايجريه شيطان شعره على لسانه من وصف دقيق وتفاصيل أقرب للخيال عن جمال جسدها.. وكانت تاجوج تعرف ذلك وقد أوصت أمّها لتراقب الخباء وتضبط صديقه متلبساً فيكون لها الحق في طلب الطلاق.. ولكن هذه الرواية يدحضها العقل السليم.. إذ لم تكن تتناسب مع طبائع العربان المشهورين بفروسيتهم وغيرتهم الشديدة على أعراضهم.. وللمجنون زائغ العقل ديوان كامل في الشعر وكله روائع ينعى فيه أيامه الماضية والحاضرة.. وأكثر الناس من الاضافات والخرافات حتى صار اسم تاجوج واسم المحلّق أسطورة وليس واقعاً عاشه الناس. وانتهى حال المحلق ضائعاً مغلوباً على أمره. وكانت نهاية حياة تاجوج بمأساة كانت هي ضحيتها إذ اغتالها شيخ من قطاع الطريق في ضاحية من ضواحي التاكا جنوب كسلا الحالية، بسبب تنازع أفراد العصابة على من ستكون له تاجوج فتسلل الشيخ وغرس خنجره المسموم في قلبها لما رأى أفراد عصابته يقتتلون عليها.. ودفنت تاجوج في ذلك المكان حيث أشجار الدوم والهجليج وصار بالمكان مدرسة باسم تاجوج...
الأحد يناير 12, 2014 11:24 am من طرف احمد عبدالعظيم
» بورتسودان ، عروس على شاطئ الجمال
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 6:51 pm من طرف شذى الياسمين
» كيف نقي أنفسنا من أشعة الشمس الضارّة فى فصل الصيف ؟
الأربعاء أبريل 17, 2013 4:46 pm من طرف shery adel
» الحب تلك الكلمة المكونة من حرفين
الثلاثاء أبريل 16, 2013 8:12 pm من طرف shery adel
» موضوع جميل عن الصداقة ........!
الخميس أبريل 11, 2013 10:17 pm من طرف shery adel
» أنآقـــه اللسآن
السبت أبريل 06, 2013 9:00 pm من طرف shery adel
» أفضل شيء عند الشباب والبنات....................
الإثنين أبريل 01, 2013 6:04 pm من طرف shery adel
» كل ماسكات التبيض للبشره والجسم
الأحد مارس 31, 2013 4:20 pm من طرف shery adel
» سبوع بس وهتحصلي علي معده مشدوده وجسم مثلي
الثلاثاء مارس 26, 2013 3:14 pm من طرف shery adel