تمر الهبوب
1
نشأ الصغير مندور وترعرع وسط أشجار النخيل. وما أدراك ما شجرة النخيل. تلك الشجرة المباركة التي ارتبط بها وجدان أهلنا في شمال السودان، خبروها وخبرتهم، أعطتهم الكثير في زمن كان طعمه من طعم ثمارها الحلوة. كان الصغير يتابع مع أسرته الصغيرة مراحل عطاء النخلة حيث تبدأ مراحل إنتاجها في تؤدة وتمهل وكبرياء وحساسية مفرطة. كان يتابع مع أهله هذه المراحل باهتمام منذ البداية، يتابعون شجرتهم الحبيبة بكل الحنان والحب. تبدا المرحلة الأولى في منتصف أو أواخر ديسمبر بالنخيل الذكر. ذاك الفحل القوي الخشن في مظهره، مع تباشير الشتاء يبدأ بإنتاج حبوب اللقاح في شكل زهرات صغيرة، تتحور تدريجيا ليغطيها جراب صلب تنمو بداخله حبوب اللقاح وتراقبه العيون الحادبة صباح مساء. وهناك تكون النخلات الأنثيات الرقيقات قد أزهرن أيضا وتزيّنّ وفتحن قلوبهنّ استعداداً لاستقبال اللقاح الميمون. كان المندور يسمع تلك العبارات التي ألفتها الآذان، يرددها هواء أمشير في عشرة الراعي (ذاك القرض الحسن الذي تهبه أم شير لأختها طوبة في كلّ عام) تسمع عبارتي التمر جبّد، والضكر فقس. وهنا يأتي دور القفّاز المتخصص في عملية تلقيح النخيل، ليقوم بقطع جرابات الضكر وفتحها ورص السبلات الحاملة لحبوب اللقاح المشبّعة بالدقيق، وربطها بخيط نسيج الجراب المتين في ربط صغيرة، يحملها في كيس من القماش، (خرتاية الضكر) ويصعد بها نخلةً نخلة مهما بلغت من الطول، ليبث في قلبها وزهراتها المتفتّحة من إكسير الحياة.. هو الرجل النحلة قفّاز النخلة وصاحب
السبيطة الأولى من كل نخلة عند الحصاد..
في تلك القرية الوادعة على ضفاف النيل في ضواحي (المحس) فتح الطفل مندور عينيه على بواسق النخيل وخضرة الجروف، في منزلهم المبني من اللبٍن (الطين)، المطلّ على النيل. الحياة في غاية البساطة والناس يعيشون في نعمة الرضا بالكفاف. مستوري الحال، لا قيل ولا قال، ولا كثرة سؤال. المنزل علي بساطته واسع الفناء، مكون من غرفتين تتوسطهما فرندة، والمطبخ (الدونكا) أمامه الراكوبة (اللقدابة) وبداخله تربيزة خشبية متوسطة الحجم فوقها كل احتياجات المأكل والمشرب من صوان وصحون.. وكبابي الشاي والكفتيرة والبراد، لها رف خاص مثبّت على الحائط فوق التربيزة. السقف مِرق من جزع الدوم تثاقلت فوقه فِلق من جزع النخيل. ونسيج الجريد والنعال من الطين المخلوط بالأسد الذي هو بقايا درس القمح (النوريق) وفوق النعال عدة بلطات عبر السنين من الزبالة من روث البهائم المخمّر مع الطين.. تثاقلت الحمولة على مرق الدوم المسكين فأطلق زفرات من أنين، أحسّ بها عباس والد مندور فدعمه في الوسط بشعبة السنط (الأمينة).. وبجوار الأمينة الصابرة على مرّ السنين، حبال من ألياف جزع النخيل (العشميق) تدلت مفتولة من أعلى لتتفرع في شكل مظلة من الأسفل تشكّل مبيتا مريحا لحلة الملاح. ذاك هو المعلاق ويسمونه (المشلعيب) في مناطق تتقلّب فيها الحروف. وبجانبه آخر أكثر جمالا مصنوعا من ضفيرة سعف الدوم، ومصبوغ بألوان شتى. تبيت فيه قرعة اللبن الحليب، بعيدا عن متناول اللصة قطة الجيران..
نخرج من الدونكا (المطبخ) للفناء الفسيح.. هناك في الركن القصي إستراحتان مستراحتان. بين بيت الأسرة و الديوان. ويالوجع أمّ العيال إذا صحا طفل في جوف الليل وفي عزّ الشتاء القارس لقضاء حاجة.. والكبير في هذا الزمان تلزمه ركشة (موتور) ليستريح..
تحت شجرة المانجو الظليلة جلس أفراد الأسرة الصغيرة. الوالد عباس عاد يحمل جرابان كبيران من ذكر النخيل القابع فوق الجدول، )الضكرة الفوق الجدول) فقسا مبكّرين واستحقا القطع والتربيط. وبعد الغداء والشاي جلس الوالد وإبنيه الكبير محمود والصغير مندور، جلس الوالد أرضا مفترشا المصلاة (التقروقة (البالية وأمامه الصينية الكبيرة. وبالمنجل المسنن شقّ جرابي الذكر وطرح حصيلتهما على الصيينية فامتلأت لأمّ عينها. (تبارك الخلّاق). وبدأ في إعداد وربط الضكر بحرص شديد. والمحمود والمندور يمدانه بخيوط الجراب بعد سلخها بسنانهما. وهنالك في زاوية أخرى أمام اللقدابة (مظلة من جريد النخيل) جلست أمّ العيال أمونة ومعها بنتيها سكينة وعائشة وقد أمسكت كلّ منهنّ بالإبرة والخيط تحيكان أكياسا صغيرة من الدلاقين (الخرق البالية)، فالعنبة الوحيدة في القرية تحتاج هذه الأكياس لتقي ثمارها التي بدأ ماؤها يحلوّ من نقدات العصافير. هذه العنبة جلبها عمّ الصغار أحمد من مصر حيث يعمل في المهجر في القناطر الخيرية. كان ذلك قبل ثلاثة أعوام في عطلته السنوية. وهو في كل عام يعود مع أسرته الصغيرة المكوّنة من زوجته الفلاحة البيضاء الجميلة فردوس وبناته الثلاث فريال وسعاد ونور. وكان يجلب معه الهدايا لأفراد أسرة أخيه الوحيد حسن. وخاصة ملابس الشتاء من الصوف والكستور والأحذية الجلدية. وكان حضورهم عيدا كبيرا لأسرة عمّهم وخاصة الصغير مندور. حيث كان يحب اللعب مع بنت عمّه الصغيرة نور، وتعلمه ألعابا جديدة.. تعلّم لهجتها المصرية الحلوة مثلها بلكنته النوبية حيث الكل هنا برطنون ومعظم أهل القرية لا يتحدّثون العربية إلا قليلا. لكن المندور تعلّم بفضل نور الصغيرة التحدث بالعربية بطلاقة تفوق بها على أقرانه في المدرسة. وأصبح ترتيبه الأول بلا منافس ..
أكمل حسن و إبنيه إعداد الضكر، وأدخله في الخرتاية (كيس من القماش) وأدخل الخرتاية في جوال من الخيش ورفعه فوق اللقدابة في انتظار القفّاز (من يلقح النخيل) خليفة ابن المناصير الذي استوطن معهم في القرية فأصبح القفّاز الأول في القرية. و له منافس ضعيف هو عويس ولد الحلب (الغوازي) الذي لا يرغبه أحد من أهل القرية إلا اضطرارا، حين يعجز خليفة ولد المناصير. حمل حسن وإبنيه أكياس العنبة وخرجوا لحمايتها من الطيور. كانت شخاليب العنب كثيرة وكبيرة، وحين تنضج يذوق كلّ الجيران والأحباب طعم العنب، و الفائض منها يجفف ذبيباً لرمضان..
1
نشأ الصغير مندور وترعرع وسط أشجار النخيل. وما أدراك ما شجرة النخيل. تلك الشجرة المباركة التي ارتبط بها وجدان أهلنا في شمال السودان، خبروها وخبرتهم، أعطتهم الكثير في زمن كان طعمه من طعم ثمارها الحلوة. كان الصغير يتابع مع أسرته الصغيرة مراحل عطاء النخلة حيث تبدأ مراحل إنتاجها في تؤدة وتمهل وكبرياء وحساسية مفرطة. كان يتابع مع أهله هذه المراحل باهتمام منذ البداية، يتابعون شجرتهم الحبيبة بكل الحنان والحب. تبدا المرحلة الأولى في منتصف أو أواخر ديسمبر بالنخيل الذكر. ذاك الفحل القوي الخشن في مظهره، مع تباشير الشتاء يبدأ بإنتاج حبوب اللقاح في شكل زهرات صغيرة، تتحور تدريجيا ليغطيها جراب صلب تنمو بداخله حبوب اللقاح وتراقبه العيون الحادبة صباح مساء. وهناك تكون النخلات الأنثيات الرقيقات قد أزهرن أيضا وتزيّنّ وفتحن قلوبهنّ استعداداً لاستقبال اللقاح الميمون. كان المندور يسمع تلك العبارات التي ألفتها الآذان، يرددها هواء أمشير في عشرة الراعي (ذاك القرض الحسن الذي تهبه أم شير لأختها طوبة في كلّ عام) تسمع عبارتي التمر جبّد، والضكر فقس. وهنا يأتي دور القفّاز المتخصص في عملية تلقيح النخيل، ليقوم بقطع جرابات الضكر وفتحها ورص السبلات الحاملة لحبوب اللقاح المشبّعة بالدقيق، وربطها بخيط نسيج الجراب المتين في ربط صغيرة، يحملها في كيس من القماش، (خرتاية الضكر) ويصعد بها نخلةً نخلة مهما بلغت من الطول، ليبث في قلبها وزهراتها المتفتّحة من إكسير الحياة.. هو الرجل النحلة قفّاز النخلة وصاحب
السبيطة الأولى من كل نخلة عند الحصاد..
في تلك القرية الوادعة على ضفاف النيل في ضواحي (المحس) فتح الطفل مندور عينيه على بواسق النخيل وخضرة الجروف، في منزلهم المبني من اللبٍن (الطين)، المطلّ على النيل. الحياة في غاية البساطة والناس يعيشون في نعمة الرضا بالكفاف. مستوري الحال، لا قيل ولا قال، ولا كثرة سؤال. المنزل علي بساطته واسع الفناء، مكون من غرفتين تتوسطهما فرندة، والمطبخ (الدونكا) أمامه الراكوبة (اللقدابة) وبداخله تربيزة خشبية متوسطة الحجم فوقها كل احتياجات المأكل والمشرب من صوان وصحون.. وكبابي الشاي والكفتيرة والبراد، لها رف خاص مثبّت على الحائط فوق التربيزة. السقف مِرق من جزع الدوم تثاقلت فوقه فِلق من جزع النخيل. ونسيج الجريد والنعال من الطين المخلوط بالأسد الذي هو بقايا درس القمح (النوريق) وفوق النعال عدة بلطات عبر السنين من الزبالة من روث البهائم المخمّر مع الطين.. تثاقلت الحمولة على مرق الدوم المسكين فأطلق زفرات من أنين، أحسّ بها عباس والد مندور فدعمه في الوسط بشعبة السنط (الأمينة).. وبجوار الأمينة الصابرة على مرّ السنين، حبال من ألياف جزع النخيل (العشميق) تدلت مفتولة من أعلى لتتفرع في شكل مظلة من الأسفل تشكّل مبيتا مريحا لحلة الملاح. ذاك هو المعلاق ويسمونه (المشلعيب) في مناطق تتقلّب فيها الحروف. وبجانبه آخر أكثر جمالا مصنوعا من ضفيرة سعف الدوم، ومصبوغ بألوان شتى. تبيت فيه قرعة اللبن الحليب، بعيدا عن متناول اللصة قطة الجيران..
نخرج من الدونكا (المطبخ) للفناء الفسيح.. هناك في الركن القصي إستراحتان مستراحتان. بين بيت الأسرة و الديوان. ويالوجع أمّ العيال إذا صحا طفل في جوف الليل وفي عزّ الشتاء القارس لقضاء حاجة.. والكبير في هذا الزمان تلزمه ركشة (موتور) ليستريح..
تحت شجرة المانجو الظليلة جلس أفراد الأسرة الصغيرة. الوالد عباس عاد يحمل جرابان كبيران من ذكر النخيل القابع فوق الجدول، )الضكرة الفوق الجدول) فقسا مبكّرين واستحقا القطع والتربيط. وبعد الغداء والشاي جلس الوالد وإبنيه الكبير محمود والصغير مندور، جلس الوالد أرضا مفترشا المصلاة (التقروقة (البالية وأمامه الصينية الكبيرة. وبالمنجل المسنن شقّ جرابي الذكر وطرح حصيلتهما على الصيينية فامتلأت لأمّ عينها. (تبارك الخلّاق). وبدأ في إعداد وربط الضكر بحرص شديد. والمحمود والمندور يمدانه بخيوط الجراب بعد سلخها بسنانهما. وهنالك في زاوية أخرى أمام اللقدابة (مظلة من جريد النخيل) جلست أمّ العيال أمونة ومعها بنتيها سكينة وعائشة وقد أمسكت كلّ منهنّ بالإبرة والخيط تحيكان أكياسا صغيرة من الدلاقين (الخرق البالية)، فالعنبة الوحيدة في القرية تحتاج هذه الأكياس لتقي ثمارها التي بدأ ماؤها يحلوّ من نقدات العصافير. هذه العنبة جلبها عمّ الصغار أحمد من مصر حيث يعمل في المهجر في القناطر الخيرية. كان ذلك قبل ثلاثة أعوام في عطلته السنوية. وهو في كل عام يعود مع أسرته الصغيرة المكوّنة من زوجته الفلاحة البيضاء الجميلة فردوس وبناته الثلاث فريال وسعاد ونور. وكان يجلب معه الهدايا لأفراد أسرة أخيه الوحيد حسن. وخاصة ملابس الشتاء من الصوف والكستور والأحذية الجلدية. وكان حضورهم عيدا كبيرا لأسرة عمّهم وخاصة الصغير مندور. حيث كان يحب اللعب مع بنت عمّه الصغيرة نور، وتعلمه ألعابا جديدة.. تعلّم لهجتها المصرية الحلوة مثلها بلكنته النوبية حيث الكل هنا برطنون ومعظم أهل القرية لا يتحدّثون العربية إلا قليلا. لكن المندور تعلّم بفضل نور الصغيرة التحدث بالعربية بطلاقة تفوق بها على أقرانه في المدرسة. وأصبح ترتيبه الأول بلا منافس ..
أكمل حسن و إبنيه إعداد الضكر، وأدخله في الخرتاية (كيس من القماش) وأدخل الخرتاية في جوال من الخيش ورفعه فوق اللقدابة في انتظار القفّاز (من يلقح النخيل) خليفة ابن المناصير الذي استوطن معهم في القرية فأصبح القفّاز الأول في القرية. و له منافس ضعيف هو عويس ولد الحلب (الغوازي) الذي لا يرغبه أحد من أهل القرية إلا اضطرارا، حين يعجز خليفة ولد المناصير. حمل حسن وإبنيه أكياس العنبة وخرجوا لحمايتها من الطيور. كانت شخاليب العنب كثيرة وكبيرة، وحين تنضج يذوق كلّ الجيران والأحباب طعم العنب، و الفائض منها يجفف ذبيباً لرمضان..
الأحد يناير 12, 2014 11:24 am من طرف احمد عبدالعظيم
» بورتسودان ، عروس على شاطئ الجمال
الثلاثاء ديسمبر 24, 2013 6:51 pm من طرف شذى الياسمين
» كيف نقي أنفسنا من أشعة الشمس الضارّة فى فصل الصيف ؟
الأربعاء أبريل 17, 2013 4:46 pm من طرف shery adel
» الحب تلك الكلمة المكونة من حرفين
الثلاثاء أبريل 16, 2013 8:12 pm من طرف shery adel
» موضوع جميل عن الصداقة ........!
الخميس أبريل 11, 2013 10:17 pm من طرف shery adel
» أنآقـــه اللسآن
السبت أبريل 06, 2013 9:00 pm من طرف shery adel
» أفضل شيء عند الشباب والبنات....................
الإثنين أبريل 01, 2013 6:04 pm من طرف shery adel
» كل ماسكات التبيض للبشره والجسم
الأحد مارس 31, 2013 4:20 pm من طرف shery adel
» سبوع بس وهتحصلي علي معده مشدوده وجسم مثلي
الثلاثاء مارس 26, 2013 3:14 pm من طرف shery adel